يبقى الحب
ولد في ليلة الصخب الكبرى ، الموسيقى في جميع الأنحاء ، رصاصٌ ينطلق من هناك و صراخٌ في كل مكان ، ترتدي الشوارع الزينة الملونة ،
و تضع المطاعم شعار الحرية و تخلع المدينة رداء الصمت و المعاناة ، إنه يوم الحرية ، إنه عيد الإستقلال.
كانت أمه تداعبه في تلك اللحظة ، تضع يدها على بطنها ، و تلعب بأناملها و كأنها تلامسه و تقول :" يا طفلي العزيز ، اليوم هو ذكرى لقائي بوالدك ، كان لقاؤنا في ساحة الأحتفال ،
عندما كادت أن تدهسني سيارة منعطفة بسرعة فجائية ، لولا أنه أمسك بيدي و أبعدني. إلتففت حول نفسي و لم أجد رأسي إلا في صدره. شعرتُ بالخجل ، لكنه أفلتني بسرعة ،
سألني إن كنت بخيراً أم لا ، أجبته و ركضت مبتعدة على الفور، لن أنسى ذلك اليوم ما حييت".
لم تكن تعلم بأنها لن تنسى ذلك التاريخ أيضاً ، لأنه سيصبح الآن يوم ولادة فلذة كبدها.
شعرت ببعض الألم و الوخز في بطنها ، إعتقدت بأنه كان يردُ على كلامها ، لكنها كانت لحظة الحقيقة.
----------------------
نصمت كثيراً ليمسعنا الآخرون ، عندما تصمت الزهرة الحمراء ، تُخرِج دموعها المتساقطة بذلك البطء المستتر ، و البياض اللامع، في صباح ٍ للمغريات الصامتة.
عندما تصمت السماء بزرقتها المائية ، و بياض سحبها الملائكي ، نسمع غزارة تلك القطرات المرتطمة مع أرض ٍ لا يغلبها سوى صمت ٍ من أقدام تمشي عليها بتواطؤ ذاتي.
لكن معه هو كان للصمت معنى آخر ،ذلك الهدوء المتماوج مع هدير المياه ، أصوات الأقدام ذات المشية المنتظمة ، الطيور الصباحية بتغريدها الموسيقي ،
تلك القطرات التي تتساقط من صنبور المياه الصدء. كان الجميع يحيا على شمس الصباح ، و ينام على ضياء القمر.
لكن هو كان يصحو على صوت ذلك المنبه الذي يرن في الصباح الباكر معلناً شروق الشمس ، و ينام على صوت والده عندما يقول :" حان وقت النوم".
كان حلمه أن يرى صورة والده ، فلم يكن يعلم سوى صوته ، و بعضٌ من تضاريس وجهه التي حفظها من خلال لمسه.
كان دائماً ما يستمتع بقصص والده عندما يبدأ الحديث عن والدته ، التي لا يعرف شيئاً عنها سوى تلك الأوصاف التي إعتاد سماعها من والده.
- هل تعلم يا بُني ، أمك كانت جميلة جداً ، لن أنسى ليلة عيد الإستقلال ما حييت يوم رأيتها للمرة الأولى ؛بشعرها الأسود الطويل ، و جسدها الممشوق ، و وجهها الأبيض.
كانت في غاية الجمال بذلك الفستان الأحمر ، و الحناء على يدها اليسرى بتلك الورود المرتسمة. كنت أتمنى فقط التحدث اليها ، ظللت أتبعها طوال الوقت ،
و لم يكن في وسعي فعل شيء سوى أن لا أبعد ناظري عنها ، حتى قررت كتابة تلك الورقة ، و ما أن فرغت منها أتجهت أليها مقرراً إعطائها إياها ،
لكن ظهور تلك السيارة المسرعة كاد أن يفقدني صوابي ، أمسكتها و سحبتها نحوي ، لم اكن أعلم بأنني سحبتها بهذه القوة ، لقد سقطت على صدري تماماً
، لن أستطيع أن أصف لك ذلك الشعور الذي اجتاحني.
- أظنك لم تفلتها .. و أطلق قهقهة ساخرة ، و هو ينظف نظارته السوداء.
--------------------------------
السماء صافية و الجو بارد ، إنه فصل الربيع ، الأشجار الخضراء بأيديها الممتدة لتغطي تلك البساتين الوردية بورودٍ ملونة ألوان الطبيعة اليانعة.
كانت تجلس قبالة تلك النافذة المطلة على الذلك الجمال الإلهي ، ممسكة بتلك الورقة ، تتحسس بطنها من حين ٍ لآخر ، تحرك أناملها ببطء ، تبتسم و تقرأ له أول رسالة حب ٍ في حياتها .
لن أكتب لك ِ أسمي ، لأني أريدك ِ أن تحفظيه بعد أن أحفظ أسمك ِ.
ربما لا تعلمين من أنا ، و لا تعلمين سر هذه الرسالة التي في جيبك ِ .
لكن صدقيني منذ رأيتك ِ ، رأيت فيك كياني ، رأيت فيك أحلامي التي إنتهت بلقياك ِ.
رأيت فيك جمال الحياة المنسوجة من جمالك ، و شعاع القمر المنبثق من خلال وجهك اللامع.
رأيت فيك ِ صفاء السماء الزرقاء كزرقة عينيك ِ.
صدقيني الحياة لوحة ، أريد أن تكون يديك ِ ريشتها ، و رقتك ِ بهاؤها ، و شفتيكِ بلسمها ، و همستك ِ ألوانها ، و عينيك ِ عنوانها.
ربما ترتسم الآن حولك ِ علامات الدهشة ، و تضعين إستفهامات كثيرة حول كلماتي !
لكن لو لمست ِ صدري لشعرت ِ بنبضات ذاك القلب الذي لا يصرخ لسواك ِ
لن أطلب ِ منك أن تلتقيني ، لكن سأطلب منك ِ رسالة فقط ، أجد فيها إجابة شافية لقلبي.
ملحوظة : أتمنى أن أجد رسالة منك ِ .. ضعيها في خلف ذلك الكشك المنزوي في محطة القطار.
ثم قالت و الدموع بين عينيها :"أبوك من يومه كان عاشقاً للحرف ، ليته معنا الآن".
-----------------------------------
أمسك والده بكوب من الشاي كان قد إعتاد إعداده ظهيرة كل سبت ثم قال:
- كانت هي في ذلك الوقت مفزوعة خائفة ، وضعت لها المغلف دون أن تشعر في جيبها.
- ألم تشعر بأصابعك ؟ .. و كيف أتتك الفكرة بهذه السرعة؟.
- أحياناً تأتينا الفرصة مرة واحدة ، إن لم نستفد منها الفائدة القصوى ، تأكد بأنها ستضيع سدى.
كان يجب أن لا تضيع رسالتي في مهب الرياح ، كنت أنتظر ردها بلهفة و شوق ليس لهما مثيل ، كانت الساعات بطيئة بالنسبة لي ،
كنت أمر يومياً على ذلك الكشك الصغير المنزوي في محطة القطار ، و أتظر الى خلفه دون أن يشعر بي أحد ؛ و كلي أملٌ أن أجد شيئاً ، لكن لا شيء سوى بطء الوقت ،
و سرعة دقات القلب ، كانت صورتها لا تفارقني بشعرها الأسود و ذلك الفستان الأحمر.
- وهل كتبت أليكَ ردها ؟
- نعم .. بعد مرور أربعة أيام ٍ من الإنتظار.
أخرج من جيبه الأيسر محفظته السوداء ثم سحب ورقة مطبقة ، فتحها ببطء كما أبتسامته :
آسفة على التأخير كان علي التأكد منك أولاً،هل أنت عاشقٌ كما تقول ،أم مجرد بائع ٍ للهوى!
كما أن جرأتك قد أصابتني بالخوف !
لم اكن أعلم بوجود رجال ٍ يعترفون بما في القلب بهذه السهولة !
فالرجال في حياتي هم أولئك الذين يمطرون المرأة قسوة ، و يغرقونها ذلاً
و يدفنون حقها حية ، و يشيعونها ميتة و بيديهم خاتم إمرأة أخرى !
أما الذين تخفق قلوبهم حباً ، و تكتب أيديهم شعراً ، و تلتهب صدورهم نيراناً من الشوق !
فأولئك لم أرهم في حياتي ، يا من بحروفك بعثرت كياني ، و أشعلت فتيل الرغبة بين مساماتي .
يا من سحبتني بأنفاس كلماتك من ظلمات السواد المسائي ، و أشرقت ببهاء عواطفك شمس صباحي !
كم أخاف أن أجدك كغيرك من الرجال أولئك الذين يلبسون قناع الرحمة طُعماً !
ثم يعتقلونها بين جدراناً من الظلم .. أخاف أن اُخدع بكلمات على ورق لأجدك َ
على الحقيقة مجرد شفق ٍ بعيد ، لا قلباً و لا أحاسيس تنعتق !
أخاف أن تكون فارساً تمتطي خيال الأفق ، و لا تعلم شيئاً عن واقع أمرأة تحترق !
أن كنت حقاً مختلف ، سأنتظر ردك .
هنا في نفس المكان ، و الزمان سأتركه لك .
و لن أقول أسمي حتى أطمئن من فارس للكلمات أظنه سيمل !
ملحوظة :
سأنتظر ردك ، خلف نفس الكشك .
- والدتك ساحرة ، كم كانت تعجبني بأفكارها و عقليتها الفذة .
-----------------------------------
الشوارع مزدحمة ، لا وجود لسيارات الأجرة. تتألم ، تشعر بذلك الإهتزاز، قد حان وقت الولادة ، الإحتفالات هناك و صراخها هنا ، توقفت إحدى سيارات الأجرة ،
ركبتها بسرعة و لم تنطق إلا بالمستشفى و أنطلق السائق عند سماعه لصرختها الداوية.
في ذلك الوقت كان زوجها عائداً من مؤتمر أدبي بإحدى المقاطعات البعيدة ، ركب اقرب سيارة أجرة ، كان مسرعاً فهو يعلم أن موعد ولادتها قد أقترب ،
و كم يتوق لرؤية إبنه و زوجته. قال للسائق :" هيا أسرع " ،
و ما إن أكمل جملته مع أول إنعطاف على اليمين كان أرتطامه بتلك السيارة المنعطفة بسرعة أيضاً ، لا يوجد مفرٌ سوى الإصطدام ، الحادث كان مروعاً ،
طارت السيارة في الهواء و أنقلبت مرتين على الجانب الأيسر. خرج راكضاً و عند وصوله الى تلك السيارة المنقلبة سمع بكاء طفل صغير ،
و عندما نظر عن قرب ، وجد زوجته و الدماء متطايرة في كل مكان.
- هل تعلم يا بني ، لقد نجوت بأعجوبة من ذلك الحادث ، أمك لم نستطع إسعافها بسرعة ، و فقدت أنت بصرك بسبب إرتطام رأسك بشيء ما ، لكن الحمد لله ، هأنت بجانبي اليوم.
أغرورقت عيناه بالدموع ، قبّل رأس أبنه و أتجه صوب تلك النافذة المطلة على الطبيعة الباهية ثم قال :"كانت تحب تأمل الطبيعة دوماً ، كانت تجيد عزف الكمان بلمستها السحرية و أناملها الذهبية ، تُخرج أروع الألحان."
فتح أبنه الحقيبة التي بجانب كرسيه ، و أمسك بتلك الآلة الموسيقية ليعزف مع ذلك الجو الربيعي أعذب الألحان ثم توقف لبرهة و قال :
- أبي .. كيف كان لقاءكم الأول بعد تلك الرسائل المتبادلة.
- ( بعد أن أطلق ضحكة خفيفة ) .. ألتقينا في اليوم الذي أنتظرتها طويلاً لترد ، كما كانت هي تحاول إختبار صبري و تنتظر رسالة مني تسأل سبب عدم ظهور أي رد ٍ منها ،
نظرات عينيها الساحرة كادت أن تخترقني ، لم أصدق حينها أنها أمامي ، طلبت فقط أسمها و عنوانها ، حتى أبرهن لها بأن رسائلي ليست لتقضية الوقت ،
بل أنني أريدها زوجة تعيش معي بقية عمري. أعطتني رسالة و لم أرها مرة أخرى إلا يوم خطبتها.
- و ماذا كان في تلك الرسالة؟.
- كان عنوانها و ملحوظة صغير .. " الآن يمكنني أن أسلمك قلبي و عنواني .. أسمي ‘ليلى’.
-----------------------------
تزوجا بعد أن تراسلا قرابة الشهر ، بعد وفاتها ظل ّ وفياً لها ، كتب عنها دواوين و أشعاراً كثيرة لا تحصى و لا تعد. تخّرج أبنه من معهد الموسيقى بدرجة إمتياز.
و هاهو اليوم على فراش الموت بعد أن أهلكته امراض العمر. قبل وفاته طلب من أبنه أن يدفن بجوار زوجته.
بعد مرور ثلاثة أشهر هاهو أبنه يطلق معزوفته الأولى و بجانبه تجلس تلك الفتاة بشعرها الأشقر اللامع ، كانت تجلس بجواره ، و تشاركه عزف الكمان ،
كانت المقطوعة إهداءه الأول لها. و يبقى الحب ، مهما خفتت أضواء شموعه البالية بداخلنا.
ولد في ليلة الصخب الكبرى ، الموسيقى في جميع الأنحاء ، رصاصٌ ينطلق من هناك و صراخٌ في كل مكان ، ترتدي الشوارع الزينة الملونة ،
و تضع المطاعم شعار الحرية و تخلع المدينة رداء الصمت و المعاناة ، إنه يوم الحرية ، إنه عيد الإستقلال.
كانت أمه تداعبه في تلك اللحظة ، تضع يدها على بطنها ، و تلعب بأناملها و كأنها تلامسه و تقول :" يا طفلي العزيز ، اليوم هو ذكرى لقائي بوالدك ، كان لقاؤنا في ساحة الأحتفال ،
عندما كادت أن تدهسني سيارة منعطفة بسرعة فجائية ، لولا أنه أمسك بيدي و أبعدني. إلتففت حول نفسي و لم أجد رأسي إلا في صدره. شعرتُ بالخجل ، لكنه أفلتني بسرعة ،
سألني إن كنت بخيراً أم لا ، أجبته و ركضت مبتعدة على الفور، لن أنسى ذلك اليوم ما حييت".
لم تكن تعلم بأنها لن تنسى ذلك التاريخ أيضاً ، لأنه سيصبح الآن يوم ولادة فلذة كبدها.
شعرت ببعض الألم و الوخز في بطنها ، إعتقدت بأنه كان يردُ على كلامها ، لكنها كانت لحظة الحقيقة.
----------------------
نصمت كثيراً ليمسعنا الآخرون ، عندما تصمت الزهرة الحمراء ، تُخرِج دموعها المتساقطة بذلك البطء المستتر ، و البياض اللامع، في صباح ٍ للمغريات الصامتة.
عندما تصمت السماء بزرقتها المائية ، و بياض سحبها الملائكي ، نسمع غزارة تلك القطرات المرتطمة مع أرض ٍ لا يغلبها سوى صمت ٍ من أقدام تمشي عليها بتواطؤ ذاتي.
لكن معه هو كان للصمت معنى آخر ،ذلك الهدوء المتماوج مع هدير المياه ، أصوات الأقدام ذات المشية المنتظمة ، الطيور الصباحية بتغريدها الموسيقي ،
تلك القطرات التي تتساقط من صنبور المياه الصدء. كان الجميع يحيا على شمس الصباح ، و ينام على ضياء القمر.
لكن هو كان يصحو على صوت ذلك المنبه الذي يرن في الصباح الباكر معلناً شروق الشمس ، و ينام على صوت والده عندما يقول :" حان وقت النوم".
كان حلمه أن يرى صورة والده ، فلم يكن يعلم سوى صوته ، و بعضٌ من تضاريس وجهه التي حفظها من خلال لمسه.
كان دائماً ما يستمتع بقصص والده عندما يبدأ الحديث عن والدته ، التي لا يعرف شيئاً عنها سوى تلك الأوصاف التي إعتاد سماعها من والده.
- هل تعلم يا بُني ، أمك كانت جميلة جداً ، لن أنسى ليلة عيد الإستقلال ما حييت يوم رأيتها للمرة الأولى ؛بشعرها الأسود الطويل ، و جسدها الممشوق ، و وجهها الأبيض.
كانت في غاية الجمال بذلك الفستان الأحمر ، و الحناء على يدها اليسرى بتلك الورود المرتسمة. كنت أتمنى فقط التحدث اليها ، ظللت أتبعها طوال الوقت ،
و لم يكن في وسعي فعل شيء سوى أن لا أبعد ناظري عنها ، حتى قررت كتابة تلك الورقة ، و ما أن فرغت منها أتجهت أليها مقرراً إعطائها إياها ،
لكن ظهور تلك السيارة المسرعة كاد أن يفقدني صوابي ، أمسكتها و سحبتها نحوي ، لم اكن أعلم بأنني سحبتها بهذه القوة ، لقد سقطت على صدري تماماً
، لن أستطيع أن أصف لك ذلك الشعور الذي اجتاحني.
- أظنك لم تفلتها .. و أطلق قهقهة ساخرة ، و هو ينظف نظارته السوداء.
--------------------------------
السماء صافية و الجو بارد ، إنه فصل الربيع ، الأشجار الخضراء بأيديها الممتدة لتغطي تلك البساتين الوردية بورودٍ ملونة ألوان الطبيعة اليانعة.
كانت تجلس قبالة تلك النافذة المطلة على الذلك الجمال الإلهي ، ممسكة بتلك الورقة ، تتحسس بطنها من حين ٍ لآخر ، تحرك أناملها ببطء ، تبتسم و تقرأ له أول رسالة حب ٍ في حياتها .
لن أكتب لك ِ أسمي ، لأني أريدك ِ أن تحفظيه بعد أن أحفظ أسمك ِ.
ربما لا تعلمين من أنا ، و لا تعلمين سر هذه الرسالة التي في جيبك ِ .
لكن صدقيني منذ رأيتك ِ ، رأيت فيك كياني ، رأيت فيك أحلامي التي إنتهت بلقياك ِ.
رأيت فيك جمال الحياة المنسوجة من جمالك ، و شعاع القمر المنبثق من خلال وجهك اللامع.
رأيت فيك ِ صفاء السماء الزرقاء كزرقة عينيك ِ.
صدقيني الحياة لوحة ، أريد أن تكون يديك ِ ريشتها ، و رقتك ِ بهاؤها ، و شفتيكِ بلسمها ، و همستك ِ ألوانها ، و عينيك ِ عنوانها.
ربما ترتسم الآن حولك ِ علامات الدهشة ، و تضعين إستفهامات كثيرة حول كلماتي !
لكن لو لمست ِ صدري لشعرت ِ بنبضات ذاك القلب الذي لا يصرخ لسواك ِ
لن أطلب ِ منك أن تلتقيني ، لكن سأطلب منك ِ رسالة فقط ، أجد فيها إجابة شافية لقلبي.
ملحوظة : أتمنى أن أجد رسالة منك ِ .. ضعيها في خلف ذلك الكشك المنزوي في محطة القطار.
ثم قالت و الدموع بين عينيها :"أبوك من يومه كان عاشقاً للحرف ، ليته معنا الآن".
-----------------------------------
أمسك والده بكوب من الشاي كان قد إعتاد إعداده ظهيرة كل سبت ثم قال:
- كانت هي في ذلك الوقت مفزوعة خائفة ، وضعت لها المغلف دون أن تشعر في جيبها.
- ألم تشعر بأصابعك ؟ .. و كيف أتتك الفكرة بهذه السرعة؟.
- أحياناً تأتينا الفرصة مرة واحدة ، إن لم نستفد منها الفائدة القصوى ، تأكد بأنها ستضيع سدى.
كان يجب أن لا تضيع رسالتي في مهب الرياح ، كنت أنتظر ردها بلهفة و شوق ليس لهما مثيل ، كانت الساعات بطيئة بالنسبة لي ،
كنت أمر يومياً على ذلك الكشك الصغير المنزوي في محطة القطار ، و أتظر الى خلفه دون أن يشعر بي أحد ؛ و كلي أملٌ أن أجد شيئاً ، لكن لا شيء سوى بطء الوقت ،
و سرعة دقات القلب ، كانت صورتها لا تفارقني بشعرها الأسود و ذلك الفستان الأحمر.
- وهل كتبت أليكَ ردها ؟
- نعم .. بعد مرور أربعة أيام ٍ من الإنتظار.
أخرج من جيبه الأيسر محفظته السوداء ثم سحب ورقة مطبقة ، فتحها ببطء كما أبتسامته :
آسفة على التأخير كان علي التأكد منك أولاً،هل أنت عاشقٌ كما تقول ،أم مجرد بائع ٍ للهوى!
كما أن جرأتك قد أصابتني بالخوف !
لم اكن أعلم بوجود رجال ٍ يعترفون بما في القلب بهذه السهولة !
فالرجال في حياتي هم أولئك الذين يمطرون المرأة قسوة ، و يغرقونها ذلاً
و يدفنون حقها حية ، و يشيعونها ميتة و بيديهم خاتم إمرأة أخرى !
أما الذين تخفق قلوبهم حباً ، و تكتب أيديهم شعراً ، و تلتهب صدورهم نيراناً من الشوق !
فأولئك لم أرهم في حياتي ، يا من بحروفك بعثرت كياني ، و أشعلت فتيل الرغبة بين مساماتي .
يا من سحبتني بأنفاس كلماتك من ظلمات السواد المسائي ، و أشرقت ببهاء عواطفك شمس صباحي !
كم أخاف أن أجدك كغيرك من الرجال أولئك الذين يلبسون قناع الرحمة طُعماً !
ثم يعتقلونها بين جدراناً من الظلم .. أخاف أن اُخدع بكلمات على ورق لأجدك َ
على الحقيقة مجرد شفق ٍ بعيد ، لا قلباً و لا أحاسيس تنعتق !
أخاف أن تكون فارساً تمتطي خيال الأفق ، و لا تعلم شيئاً عن واقع أمرأة تحترق !
أن كنت حقاً مختلف ، سأنتظر ردك .
هنا في نفس المكان ، و الزمان سأتركه لك .
و لن أقول أسمي حتى أطمئن من فارس للكلمات أظنه سيمل !
ملحوظة :
سأنتظر ردك ، خلف نفس الكشك .
- والدتك ساحرة ، كم كانت تعجبني بأفكارها و عقليتها الفذة .
-----------------------------------
الشوارع مزدحمة ، لا وجود لسيارات الأجرة. تتألم ، تشعر بذلك الإهتزاز، قد حان وقت الولادة ، الإحتفالات هناك و صراخها هنا ، توقفت إحدى سيارات الأجرة ،
ركبتها بسرعة و لم تنطق إلا بالمستشفى و أنطلق السائق عند سماعه لصرختها الداوية.
في ذلك الوقت كان زوجها عائداً من مؤتمر أدبي بإحدى المقاطعات البعيدة ، ركب اقرب سيارة أجرة ، كان مسرعاً فهو يعلم أن موعد ولادتها قد أقترب ،
و كم يتوق لرؤية إبنه و زوجته. قال للسائق :" هيا أسرع " ،
و ما إن أكمل جملته مع أول إنعطاف على اليمين كان أرتطامه بتلك السيارة المنعطفة بسرعة أيضاً ، لا يوجد مفرٌ سوى الإصطدام ، الحادث كان مروعاً ،
طارت السيارة في الهواء و أنقلبت مرتين على الجانب الأيسر. خرج راكضاً و عند وصوله الى تلك السيارة المنقلبة سمع بكاء طفل صغير ،
و عندما نظر عن قرب ، وجد زوجته و الدماء متطايرة في كل مكان.
- هل تعلم يا بني ، لقد نجوت بأعجوبة من ذلك الحادث ، أمك لم نستطع إسعافها بسرعة ، و فقدت أنت بصرك بسبب إرتطام رأسك بشيء ما ، لكن الحمد لله ، هأنت بجانبي اليوم.
أغرورقت عيناه بالدموع ، قبّل رأس أبنه و أتجه صوب تلك النافذة المطلة على الطبيعة الباهية ثم قال :"كانت تحب تأمل الطبيعة دوماً ، كانت تجيد عزف الكمان بلمستها السحرية و أناملها الذهبية ، تُخرج أروع الألحان."
فتح أبنه الحقيبة التي بجانب كرسيه ، و أمسك بتلك الآلة الموسيقية ليعزف مع ذلك الجو الربيعي أعذب الألحان ثم توقف لبرهة و قال :
- أبي .. كيف كان لقاءكم الأول بعد تلك الرسائل المتبادلة.
- ( بعد أن أطلق ضحكة خفيفة ) .. ألتقينا في اليوم الذي أنتظرتها طويلاً لترد ، كما كانت هي تحاول إختبار صبري و تنتظر رسالة مني تسأل سبب عدم ظهور أي رد ٍ منها ،
نظرات عينيها الساحرة كادت أن تخترقني ، لم أصدق حينها أنها أمامي ، طلبت فقط أسمها و عنوانها ، حتى أبرهن لها بأن رسائلي ليست لتقضية الوقت ،
بل أنني أريدها زوجة تعيش معي بقية عمري. أعطتني رسالة و لم أرها مرة أخرى إلا يوم خطبتها.
- و ماذا كان في تلك الرسالة؟.
- كان عنوانها و ملحوظة صغير .. " الآن يمكنني أن أسلمك قلبي و عنواني .. أسمي ‘ليلى’.
-----------------------------
تزوجا بعد أن تراسلا قرابة الشهر ، بعد وفاتها ظل ّ وفياً لها ، كتب عنها دواوين و أشعاراً كثيرة لا تحصى و لا تعد. تخّرج أبنه من معهد الموسيقى بدرجة إمتياز.
و هاهو اليوم على فراش الموت بعد أن أهلكته امراض العمر. قبل وفاته طلب من أبنه أن يدفن بجوار زوجته.
بعد مرور ثلاثة أشهر هاهو أبنه يطلق معزوفته الأولى و بجانبه تجلس تلك الفتاة بشعرها الأشقر اللامع ، كانت تجلس بجواره ، و تشاركه عزف الكمان ،
كانت المقطوعة إهداءه الأول لها. و يبقى الحب ، مهما خفتت أضواء شموعه البالية بداخلنا.